لم يختلف الأمر تماما عما أخبروه به .. وكأنما من خططوا لهذا الأمر قد فتحوا صفحة الغيب وقرأوا ما بها ..
استقبله التاجر بحفاوة وتعجب .. وهو يتسائل أين كان طوال هذا الشهر ؟ ..
وتعجبه من أنه ما زال بأرض فلسطين .. فالمعبر قد تم إغلاقه وصرح القادة المصريون بأن فتحه كانت غلطة لن تتكرر .. بل قد صرح وزير الخارجية نفسه بأن من يفكر أو يحاول العبور مرة أخرى سيكسر قدميه .. وبهذا أصبح ضربا من الخيال أن يتمكن خالد من العبور للجانب المصري الآن ..
شرح له خالد اصابته في حادث وأنه طوال هذه المدة كان بمستشفى ناصر حتى تماثل للشفاء ولا علم له بكل ما حدث ..
ربت الرجل على كتفه باشفاق وقال له ..
.. (( لا تحزن يا رجل .. فسعى المرء لتحصيل الرزق والمشاق التي يلاقيها هو جهاد .. وقد قالها الحبيب صلى الله عليه وسلم وصدق حين قال .. (ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه . قالوا : ولا الجهاد ؟ قال : ولا الجهاد ، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله ، فلم يرجع بشيء )
ابتسم خالد ابتسامة شاحبة وهو لا يدري ماذا يقول ولكنه قال في تردد ..
.. (( وماذا سأفعل الآن حتى أتمكن من العبور ؟؟ .. هل .. ))
وقبل أن يسأل الرجل عن إمكانية البقاء معه قاطعة الرجل قائلا ..
.. (( بيتي هو بيتك وتجارتي هي تجارتك حتى يفرجها الله .. ))
أُخذ خالد بهذا الكرم .. فهو نفسه لم يكن ليفعلها لو كان في موضع هذا الرجل ..
ولكنه ابتسم في سرور فهذا ما كان يسعى اليه من البداية ويتساير تماما مع الخطة ..
وكانت المفاجئة الحقيقية عندما رد اليه الرجل أمواله وعليها زيادة كبيرة .. وحينما سأله خالد عن تلك الزيادة .. قال له الرجل ..
.. (( الشحنة التي كانت معدة لك .. بعد أن فقدت الأمل في عودتك قمت ببيعها .. وهذه الزيادة كانت الربح فيها .. ))
أُخذ خالد للمرة الثانية بهذا التصرف الذي لم يعهده .. كان التصرف الطبيعي هو أن يعطيه الرجل شحنة أخرى ويخبره بأنها تخصه وفقط .. بل من الطبيعي جدا أن يرفض رد أمواله اليه لو طلب ذلك منه بديلا عن الشحنة ..
تسائل خالد عن هذه النوعية من البشر وهل هناك حقا من يتصرف هكذا في هذا الزمن ؟!
خصص الرجل لخالد حجرة بمنزله البسيط المكون من طابقين ..
وحين تناول الطعام كان يدعوه الى مائدة تضم الرجال .. وكانت هناك مائدة أخرى بالمطبخ تضم نساء البيت ..
ووعده الرجل بأنه سيسعي لدى حكومة غزة لعمل محاولات عدة لأجل عودته الى بلده
ومر أسبوع ولم يحدث جديد
حتى حدث موقف كان هو الموقف الفيصل في كل هذا ..
كان خالد بأحد المخازن السفلية بالمتجر .. حين طلب منه الرجل احضار شيء ما ..
وعندما هبط خالد وجد بابين واستحى أن يفتح أحدهما ويرى مالا يرغبه الرجل فعاد أدراجه بسرعة ليسأله عن أي البابين يسلك ..
ولكن أذنيه التقطت جملة واحدة جعلته يتخشب في موضعه ..
كان الرجل يقول لمحدثه في الهاتف ..
.. (( إنه معي بالمخزن السفلي وأسيطر عليه تماما ))
ارتعد خالد لسماع هذه العبارة .. ماذا تعني كلمة السيطرة هذه ؟!!
هل تعني بأنه قد اكتشف حقيقته ؟
ولهذا اختفي خلف أكوام البضاعة واستمع لبقية الحوار ..
كان الرجل يقول لمحدثه .. (( سيكون عبرة لكل خائن .. وسيعلم الجميع بعدها أن غزة الطاهرة لن يلوثها أي دم خبيث .. ))
هنا أسقط في يدي خالد ..
لقد اكتشف الرجل حقيقته فعلا ..
ارتعد خالد وارتبك ولم يدر ماذا يفعل .. وبينما هو يتحرك في عصبية اصطدمت يده باناء كبير وأسقطه ليدوي صوته بالمتجر .. والتفت الرجل نحوه بقوة وهو يسأل ماذا هناك ..
ظهر خالد مرتبكا وهو يقول .. (( لا شيء .. لقد سقط رغما عني .. كنت أريد سؤالك عن أي البابين بالأسفل أسلك اليمين أم اليسار ؟ ))
نظر الرجل اليه نظرة فاحصة وعميقة .. ثم قال له بهدوء ..
.. (( لا عليك فلتبق أنت معي هنا وسأرسل أحدا غيرك .. ))
ظل خالد طوال اليوم يفكر في كل سبل الهروب الممكنة .. وكيف يستطيع مغافلة الرجل ليفلت من بين يديه ..
ولكن ترى هل من السهل فعلها والرجل يعلن سيطرته التامة عليه ..
ووجد أن أفضل وقت لفعلها حين ذهاب الرجل لصلاة العصر ..
ولكن قبيل العصر فوجيء بأن الرجل يطلبه ويخبره بأنه سيصحبه الى أمر خاص ستشهده غزة كلها ..
وأغلق الرجل متجره وهو يصحب معه كل العاملين معه فيه ..
كان خالد يسير وقدميه لا تقويان على حمله ..
حتما المقصود بذلك هو اعدامه على الملأ ..
ترى هل يمكنه الهرب الآن ؟؟
بالطبع لا .. فالرجل يصحبه في رفقة كبيرة سيمزقونه إربا لو حاول فعلها ..
أين هي العشرة ملايين دولار الآن ؟ ..
هل يمكنها أن تخرجه مما هو فيه ؟ ..
هل حياته الآن تسوى كل هذه الأموال كي يضحي بها ؟ ..
كان خالد زائغ النظرات وهو يستمع للرجل وهو يقول له ..
.. (( الخونة في كل زمان ومكان يتلبسهم الشيطان ويوحي اليهم بأنهم في أمان .. ولا يعلمون أن الله عز وجل يدافع عن الذين آمنوا وأنه ولي الصالحين .. ومهما ابتكر العدو من وسائل حديثه وعجيبه لتغطيه عملائه .. فبفضل الله يمكن للرجال الصالحين كشفها ))
لم يرد خالد ولم يفه بحرف .. وانما كان يفكر ترى بأي طريقة سيكون اعدامه شنقا أم رميا بالرصاص ؟
واستطرد الرجل قائلا ..
.. (( ترى هل حقا كنوز الدنيا كلها تسوى قطرة دم واحدة طاهرة من التي يتسبب هؤلاء الخونة في اسالتها بالجملة ؟؟ ))
كان لسان خالد معقودا وهو يتفكر ترى ما هو مذاق الموت ؟؟
وأيهما أهون الرصاص وهو يخترق جسده أم حبل المشنقة الغليظ وهو يعتصر رقبته
وأخيرا كان الميدان مزدحما بالبشر ينتظرون لحظة كشف الخائن وإعدامه ..
تعجب خالد متى وأين علم كل هؤلاء بمقدمه لإعدامه ؟!!
أخذه الرجل ووقف في مقدمة الصفوف ..
وأخيرا ظهر مقاتل قوي البنية كأسد هصور بلباسه الأسود ووقف في منتصف الدائرة
وصوب مدفعه الرشاش الى السماء وأطلف دفعة من الرصاص .. شعر خالد بها وكأنها تخترق جسده وكان صوت دويها يكاد أن يذهب بعقله
وأخيرا قال الرجل ..(( بسم الله الرحمن الرحيم .. قال الله تعالى .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وقال تعالى إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ .. ))
ثم علا صوت الرجل الجهوري أكثر وهو يقول ..
.. (( نزف إليكم أخوتنا خبر كشف أحد عملاء العدو الغادر .. خائن من أمتنا دنس روحه بقبول الحياة الدنيا مقابل أن يذهب دمكم هدرا .. سيكون دمه المراق الآن هو عبرة لكل من يفكر في ذلك بعد الآن .. ))
ثم نظر الرجل نظرة ثاقبة وأشار نحو خالد وقال ..
.. (( اليكم هذا الخائن العميل ..))
وبعدها لم يكن هناك سوى جسد خالد المتكوم الساكن على الأرض .
يتبع