بعد وداع يراه خالد مبالغا فيه من أمه وأخواته انطلق بالسيارة المحملة بالبضائع .. أخذ يدير مؤشر الراديوا حتى وجد احدى محطات الأغاني الشهيرة .. وانطلق الصوت ترافقه الموسيقي وخالد يتمايل مع نغماتها بشجن ..
وأخذ خالد يمازح السائق وكل منهما يحكى مغامراته ومواقفه التي يراها بطولية وأنه كان دوما على حق ..
خالد يقص مواقفه مع البلدية وكيف أنه يصارعهم كالأسد ولا يستطيعون أن يحصلوا منه على شيء .. وبالطبع لم يذكر أمر الرشوة التي يضطر لدفعها أول كل شهر للصول راشد كي ينبهه قبل خروج المأمورية من القسم ..
والسائق يقص عليه مغامراته أيضا مع رجال المرور وأنه فقط حينما ينظر إلى أعينهم بقوة يهتزون أمامه ويسمحون له بالمرور بالرغم من أنه يسير بسيارة بلا رخصة ..
ولا يذكر له كم من المبالغ يدفعها بصورة شبه دورية لكل جندي مرور يقف على ناصية كل شارع ..
وكأنما أراد القدر أن يختبر صدق كل منهما أو أن يعريهما لبعضهما البعض ..
فقبل الوصول لرفح بحوالي عشرين كيلو أوقفتهم نقطة تفتيش ..
طالبت بأوراق السيارة والرخص وقد كانت سليمة
وحينما سألهم عن حمولة السيارة .. تردد السائق ونظر لخالد الذي قال في حسم وهو يمد يده بسيجارة الى رجل الشرطة الذي يسائله ..
.. (( إنها بضاعة ذاهبين لبيعها عند المعبر يا باشا .. ))
ما إن سمع الرجل تلك الجملة حتى اتسعت عينيه .. وصرخ فيه بأن يقوم بركن السيارة على أحد الجوانب وطالبهما بالنزول الى داخل حجرة الاحتجاز بالكمين ..
ارتبك السائق وهو لا يدري ما الأمر ..
في حين كان خالد مندهشا ولا يرى في الأمر شيء .. فالفلسطينيون يحملون البضائع ويمرون بها بكل يسر .. فما الأمر ؟؟
حاول خالد أن يسأل هذا المساعد ماذا هناك وما الخطأ ولكن الرجل نهره بعنف ومنعه من الكلام ..
وبالداخل .. قال المساعد للضابط الجالس خلف مكتبه ..
.. (( هؤلاء يا سيدي معهم سيارة كبرى ومغطاه ويقولون بأنها محملة بالبضائع لبيعها عند المعبر .. ))
.. اتسعت عينا الضابط في دهشة وقال ..
.. (( لبيعها عند المعبر !! .. ما هذه الجرأة .. ))
ثم نظر نحو خالد والسائق وقال لهما ..
.. (( ما هي الأسلحة المحلمة بتلك السيارة ؟؟ ))
اتسعت عينا خالد وسائقه في دهشة وهو يقول ..
.. (( ياللهول .. أسلحة !! .. أي أسلحة هذه التي تتكلم عنها ياباشا ؟؟ ))
قال الضابط بصرامة ..
.. (( السيارة بالخارج وسيتم افراغ كل ما بها .. أخبروني بكل ما بها قبل أن أحطمكما وأسلمكما لمباحث أمن الدولة .. ))
ارتعد السائق بقوة وهو يقول ..
.. (( أقسم لك ياباشا لا علاقة لي بهذا الأمر .. أنا مجرد سائق مسكين طلب مني توصيله وقال بأنها بضاعه سيبيعها في فلسطين .. ))
ابتسم الضابط في ظفر وقال ..
.. (( بداية جيدة .. أفهم من هذا بأنها ليست بضاعة للبيع عند المعبر .. هيا أنتظر البقية .. ))
قال خالد في توسل ..
.. (( أرجوك يا سيادة الباشا .. السيارة أمامك فتشها كما تشاء .. لن تجد بها إلا كشافات ضوئية .. إذا وجدت غيرها افعل بي ما تشاء ))
كانت لهجة خالد واضحة الصدق مما جعل الضابط يسأله ..
.. (( اذا كانت هذه بضاعة للبيع فعلا .. ما الذي يجعلك تذهب لبيعها عند المعبر أو في غزة كما قال زميلك وكيف ستعبر الى هناك .. أخبرني فقط من خلفك وما هي الجماعة التي اتفقت معك على ذلك .. فقد تكون بريئا فعلا ولا تدري ما هو المعبأ بتلك الشحنة .. سأحاول أن أعاونك وأخلصك مما أنت فيه أشعر بانك شاب جيد ..))
ظل خالد يتوسل الرجل بانه لا يعرف جماعات وأنه فقط يريد التجارة المربحة وتفتق ذهنه عن هذه الفكرة لمضاعفة الربح ..
هرش الضابط رأسه وما كان منه إلا أن اتصل بأحد الأرقام التابعة لمباحث أمن الدولة وأخبرهم بالأمر .. فطلب منه محدثه باحتجاز السيارة وتفتيشها جيدا .. والاتصال بالقسم التابع له خالد في العريش والاستعلام عنه ...
تم رمي خالد والسائق في غرفة ضيقة مظلمة ..
وبدأ الضابط في اجراء اتصالاته .. وعلم بأنهم سيخبرونه في الغد عما يريد
وتم تفتيش السيارة قطعة قطعة
ومر اليوم على خالد وبات في موضعه جالسا وهو يشعر بالبؤس والفشل
فقد انهارت خطته قبل أن تبدأ
وخسر كل ما ادخره ودفعه في هذه العملية
هو يعلم بأن ما يتم مصادرته لا يعود
فعلى أفضل التقديرات لو خرج من الاحتجاز بلا قضايا تتلبسه فلن يحصل على شحنته ..
وعند ظهر اليوم التالي ..
اتصل الضابط وعلم بانه بائع متجول ولا يتبع أي تنظيمات
فاتصل برقم أمن الدولة الذي قال له أطلق سراحه ..
وعندما سأله هل يعيده الى العريش أم يسمح له بالمرور ..
قال رجل أمن الدولة ما دام لا يتبع أيب جماعات ولا تنظيمات دعه يكمل مسيرته
استدعي الضابط خالد وسائقه ..
وسأله قائلا .. (( كيف تغامر هذه المغامرة من أجل المال ؟؟ ))
قال خالد وهو ترتسم على وجهه ابتسامة شاحبة ..
.. (( تحصيل الرزق يتطلب أن تكون خفيفا .. ))
ابتسم الضابط وقال له ..
.. (( وهل نوعية الكشافات جيدة ام رديئة ؟؟ ))
قال خالد في حسم .. (( أنها صناعة اليابان ياباشا ومن أفضل أنواع الكشافات .. ))
قال الضابط ..
.. (( حسنا يوجد بالنقطة الآن عشرة أفراد .. ماذا ستهديهم ؟؟ ))
ابتلع خالد ريقه بصعوبة وقال ..
.. (( ما تأمر به ياباشا .. ))
قال له الضابط .. (( هيا الى سيارتك لا نريد منك شيئا ))
توقع الضابط أن ينطلق خالد مهرولا .. ولكن لدهشته وجده يقف ولا يريد الذهاب
فقال له .. (( لماذا تقف هكذا ؟ ))
قال خالد .. (( أريد منك خدمة ياباشا فمن الواضح أنك طيب القلب ))
ارتفع حاجبا الضابط في دهشة وهو يقول .. (( خدمة ؟؟ ألا يكفيك اطلاق سراحك ؟ ))
قال خالد في تردد ..
(( حتما سيوقفني ضباط ورجال أمن غيرك .. أعطني فقط رقم هاتفك لأجعلهم يتصلون بك ليعلموا ما هو موقفي منك .. ))
أعجب الضابط بذكاء خالد ومثابرته هذه .. ولهذا قهقه ومد يده وعلى قطعة ورق صغيرة كتب له الرقم واسمه بجواره .. وانتزع خالد الورقة وانطلق وهو يشعر بميلاد جديد
وحينما ذهب الى السيارة اعطي للجندي كشافا وطلب منه توصيله للضابط كهدية
وانطلقت السيارة والسائق صامت
في حين اندفع خالد يقص مغامراته السابقة مع الضباط وفي الأقسام والتخشيبات
وكما توقع أوقفته ثلاث نقاط متقاربه ..
فكان بكل ذكاء يخبرهم بانه يتبع المقدم حسن عواد ويعطيهم رقمه للاتصال
ولكن لهجة الثقة واسم الضابط كان يجعلهم يتركونه يمر ..
واتصل خالد برفيقه الفلسطيني
وعلم منه نقطة الالتقاء ..
وذهب بالسيارة الى تلك النقطة ووجد مشهدا مذهلا ..
جميع أنواع البضائع كان يتم عبورها من خلال ومن فوق هذا السور المتهدم
وكان أعجب مشهد هو تلك البقرة التي كانوا يحاولون حملها وتمريرها فوق الحائط
وقف خالد مشدوها أمام هذا المشهد
أنه حقا شعب جائع
أنه حقا شعب محروم
الذي تظهر عليه كل هذه الآمارت ومعه كل تلك المثابرة لحمل هذه البضائع وتمريرها
ناداه زميله الفلسطيني
فاقترب بالسيارة من الحائط
وبدأت عمليه نقل الكشافات
وفي خلال ساعة ونصف تم الانتهاء منها
فسلم خالد على السائق
وأعطاه السعر المتفق عليه
والسائق يريد المساومة ويقول له .. (( مبيتي معك ليلة كاملة في الكمين المفترض لها حساب خاص .. ))
ضحك خالد وقال .. (( يا رجل وهل انا بخستك حقك .. فقد أخذت ما يكفيك وزيادة ))
ثم مد يده وأعطاه كشافا وقال له خذ هذا هدية مقابل مبيتك معي في الكمين .. ))
مد السائق يده وتناول الكشاف وانطلق وقفز خالد من فوق السور
وأخيرا ركب السيارة بجوار زميله الفلسطيني وسائقه
وبدأت عجلات السيارة تنهب الأرض .. التي يخطوا فوقها لأول مرة في حياته
وهو لا يدري أن كل شبر فيها انما قد ارتوى بدماء طاهرة عبر تاريخها الطويل
ولا يدري أيضا بأنه قد ذهب في رحلة عجيبة لا يعلم إلا الله وحده ماذا سيناله فيها
يتبع