إن من المناسب بين فترة وأخرى أن نتأمل في الكلمات الشرعية لنتصيد منها بعض القواعد، وتسمى هذه القواعد بالـ "القواعد المتصيّدة".. فقد لا يكون هناك نص بمضمون تلك القاعدة، ولكن من مجموع الشواهد والقرائن نستفيد تلك الفائدة.. ومن هذه القواعد: أن الشارع المقدس يقدم الوقاية قبل العلاج، كما هو دأب العقلاء في حياتهم اليومية.. فقبل أن تقع في الحرام فإن الشارع يهيئ لك مجموعة من المقدمات المحذِّرة والمنذِّرة، لكي لا يقع أحدنا في الحرام.
وبعبارة جامعة: إن المقياس فى المقام ما روي من أنه: من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه.. فالذي يحوم حول حمى السلطان، فإنه من الطبيعي أن يتسلل سهوا أو عمدا في حدود تلك المملكة.. وكتطبيق على هذه القاعدة نقول: إن الشارع المقدس حرم علينا الخمر، وجعله أم الخبائث.. ولكن نلاحظ أنه بالنسبة لتحريم شرب الخمر، حرم علينا الجلوس على مائدة يُشرب عليها الخمر أيضا، وإن لم يكن أحدنا شاربا له، هذا في موضوع الخمر.. وأما في موضوع النساء، فنخن نعلم أن الخطيئة الكبرى عبارة عن الزنا، ولكن قبل الزنا هناك مجموعة من المحرمات منها: حرمة النظر، وحرمة المصافحة، وحرمة النظر الشهوي، والحديث الشهوي.. لأن هذه المقدمات سوف تؤثر في تغيير التركيب الباطني للإنسان.. فمن المعروف أن الإنسان له سلسة من الأمور الخفية عن الحواس: منها السلسلة العصبية وتفاعلاتها، وهناك بعض المواد التي تفرز من غدد صغيرة جدا، وتقوم بمهام كبرى فى البدن، ومن الطبيعي أن الإنسان الذي يتعرض لمواطن الإثارة السمعية والبصرية والقولية، أن تتغير تركيبته الفسيلوجية والسكيولوجية معا -أي بدنه ونفسه.
فإذن، إن حرمة النظر والاستماع، هو لتجنيب الإنسان من أن يتغير إلى موجود تغلب عليه الشهوات، وعندها يفقد السيطرة على نفسه، ومن هنا يُلاحظ أن بعض المدمنين على المعاصي، عندما يعظه أحد، فإنه يبكي ويتألم، ولكنه يقول في ختام هذه الموعظة: أن لأمر ليس بيدي.. فهذه العبارة يرددها المتوغلون في المعاصي.. لاحظوا هذه الآية: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}/ الإسراء:36.. لماذا ذكر الفؤاد بعد السمع والبصر؟.. الله يعلم بمراده، ولكن نحدس حدسا وهو أن الفؤاد -هذا العنصر الباطني- رغم باطنيته، إلا أنه يتأثر بالروافد الخارجية، المتمثلة بالسمع والبصر ولهذا جعل الفؤاد، وهو فى رتبة المعلول مقدما على البصر والسمع.
ومن الغريب أن بعض المؤمنات عندما تنهاهن عن السفور فإنها تقول هذه المقولة الساذجة المعروفة: وهى أن الإيمان في القلب، أي أن قلبي نظيف، فدع الحواس على ماهي عليها!.. والحال أنه كما قلنا: فإن القلب -هذا العنصر الباطني- يتأثر بهذه الروافد الحسية.. والأمر تماما مثل أن تقول للحوض المائي الملوث: أيها الحوض، لا تتلوث!.. وأنت تصب فيه المجاري السيئة والقبيحة والمنتنة.. فإذا أردت أن تنظّف المصب، فلا بد أن تنظّف الرواسب.. فإذن، إن الإنسان المؤمن في تعامله مع الجنس الآخر، لا بد وأن يراقب سمعه وقوله.. (روي أن علي (ع) كان جالساً في أصحابه، إذ مرّت به امرأةٌ جميلةٌ، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال (ع): إنّ أبصار هذه الفحول طوامح...).. أي من الطبيعي عندما ينظر رجل إلى امرأة متزينة، أن ينتج عن ذلك حركة باطنية، تنعكس على شكل مد البصر وما شابه ذلك.